الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الكهف: آية 31]. {أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}.وروى عن بعضهم أنه قال: معنى مرتفقا. أي مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى: وساءت مرافقه. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة فيدخله في باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه: {مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [31]فجاء بذكر الارتفاق لما قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح مشاهد..[سورة الكهف: آية 33]. {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (33)}.وقوله سبحانه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [33].وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله في اللغة، ولا على عرفه في الشريعة. لأنه في اللغة اسم لوضع الشيء في غير موضعه. وفى الشريعة اسم للضرر المفعول، لا على وجه الاستحقاق، ولا فيه استجلاب نفع، ولا دفع ضرر.والمراد بقوله تعالى هاهنا: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبر عن هذا المعنى باسم الظلم من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هي البستان كالمستحق لمالكها. فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال: إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم تمنع منه مستحقا، فتكون في حكم الظالم إذ أضرت بمالكها في نقصان زروعها، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّى ذلك قوله سبحانه: آتَتْ أُكُلَها. أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجيء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال: أعطت ما استحق عليها، ولم تمنع منه شيئا..[سورة الكهف: الآيات 56- 57]. {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}.وقوله تعالى: {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [56] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض: أي مزلق. فكأنه سبحانه قال: ليزلّوا الحق بعد ثباته، ويزيلوه عن مستقراته. فيكون كالكسير بعد قوته، والمائل بعد استقامته.وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} [57]. وهذه استعارة. لأن المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجر العقاب، ويوجب النكال. ومثله في القرآن كثير. كقوله سبحانه: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجانى المعاقب: هذا ما جنت يداك. وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد، بل كانت قولا بفم. لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم، فحمل الأمر على الأعرف، وخرج على الأكثر. وعلى هذا المعنى تسمى النعمة يدا، لأن المنعم في الأغلب يعطى بيده ما ينعم به، وإن لم يقع ذلك في كل حال، وإنما الحكم للأظهر، والقول على الأكثر..[سورة الكهف: آية 77]. {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}.وقوله سبحانه: {فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ} [77] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى: يكاد أن ينقضّ، أي يقارب أن ينقضّ. على التشبيه بحال من يريد أن يفعل في الباني، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض، من ميل بعد انتصاب، واضطراب بعد ثبات، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع، على طريقة الاتساع.وترد في كلامهم كاد بمعنى أراد، وأراد بمعنى كاد. وجاء في القرآن العظيم قوله تعالى: {كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي أردنا ليوسف}. وقوله سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها} معناه- على أحد الأقوال- أريد أخفيها. ومما ورد في أشعارهم شاهدا على ذلك قول عمر بن أبى ربيعة:فقال: وتلك خير إرادة، والإشارة إلى كادت، وكدت.وأوضح من هذا قول الأفوه الأودى: أي الذي أرادوا.فأما قول الشاعر: فليس يصح حمله على مقاربة الفعل، كما قلنا في قوله سبحانه: جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول: يكاد الرمح صدر أبى براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل: فإنه بمعنى مقاربة الفعل، لأن الفؤوس إذا فلقت في نصبها قاربت أن تسقط، فجعل ذلك كالإرادة منها. والنصول هاهنا مصدر نصل نصولا، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية. .[سورة الكهف: آية 99]. {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعًا (99)}.وقوله سبحانه: {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [99] وهذه استعارة.لأن أصل الموجان من صفات الماء الكثير، وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم ودخول بعضهم في بعض لكثرة أضدادهم، تشبيها بموج البحر المتلاطم، والتفاف الدبا المتعاظل..[سورة الكهف: آية 101]. {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}.وقوله سبحانه: {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [101] وهذه استعارة. وليس المراد أن عيونهم على الحقيقة كانت في غطاء يسترها وحجاز يحجزها.وإنما المعنى أنهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: {عَنْ ذِكْرِي} لأن الأعين لا توصف بأنها في غطاء عن ذكر اللّه تعالى، لأن ذلك من صفات ذوى العيون. وإنما المراد أن أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر، فلا يفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، فيذكرون اللّه سبحانه عند إجالة أفكارهم، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه، وغوامض هذا الكلام ومناسبه..[سورة الكهف: الآيات 104- 105]. {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا (105)}.وقوله سبحانه: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [104] وهذه استعارة. وأصل الضلال ذهاب القاصد عن سنن طريقه.فكأنّ سعيهم لما كان في غير الطريق المؤدية إلى رضا اللّه سبحانه، حسن أن يوصف بالضلال، والعدول عن سنن الرشاد.وقوله سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا} [105]. وفى هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه: {بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ} وتأويل لقائه هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال: ولقاء ثوابه وعقابه. أو جنّته وناره. والوجه الآخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير اللّه سبحانه. فيصيرون إليها من غير أن يكون لهم عنها محيص، أودونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا.يقول القائل: لقيت فلانا. أي قابلته بجملتى. وتقول: دارى تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلما كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر اللّه سبحانه بجمع الناس إليها، وحشرهم نحوها، سمّى ذلك لقاء اللّه سبحانه على السّعة والمجاز.والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا والمراد بذلك- واللّه أعلم- أنا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل بها موازينهم يوم القيامة.والميزان إذا كان ثقيلا سمّى مستقيما، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّى عادلا، ومائلا. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم، ولا نباهة لذكرهم في يوم القيامة. كما يقال في التحقير للشيء: هذا لا وزن له ولا قيمة. وكما تقول: فلان عندى بالميزان الراجح، إذا كان كريما عليك، أو حبيبا إليك. اهـ..فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة الكهف:الكون يدل على الله والوحى يقود إليه! والإيمان الصحيح يستمد حقيقته من الدلالتين معا: من دراسة الكون، وتدبر الوحى، وفى لفت النظر إلى الدلالة يقول تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}. ويتكرر الحمد- أول سورة الكهف- للفت النظر إلى الدلالة الثانية {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا}. وقد طلب الله من عباده أن يدرسوا الحياة، وأن يتأملوا في كل شيء! كما طلب منهم أن يدرسوا هذا القرآن ويتدبروا آياته، وبين أن من حرم هاتين الدراستين فقد رشده {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون}؟. والعالم يصرخ بأن ليس له إلا رب واحد، في أى زوايا الأرض أو الفضاء يقبع هذا الإله الآخر المسكين؟ ومواريث السماء متفقة على أن الله واحد، وكل ماعداه مخلوق له، ليس لله بنون ولا بنات، الله ليس لأحد والدًا!!. وقد شرح القرآن ذلك أوفى شرح، فمبلغ القرآن محمد عبد لله كغيره من حملة سائر الوحى، ومن قال غير ذلك فهو يهرف بما لا يعرف {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}. والقرآن المصدر الأول- أو قل المصدر الأوحد- لتقرير الوحدانية، ولذلك وصف بأنه قويم الفكرة والتوجيه برئ مما لحق غيره من آفات. وتوضيح الحق وتحديد مصدره نعمة سابغة، ولذلك فتحت سورة الكهف بهذه الآيات {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا}. وقد تضمنت هذه السورة أطرافا من تاريخ الحياة الإنسانية تشهد بصدق موضوعها: وهو التوحيد، وما ذكر هنا نماذج لما لم يذكر من أحوال الناس. ففيها قصة الفتية أهل الكهف، والرجلين: صاحب الجنة، ومحاوره الفقير، وحكاية موسى مع الخضر، ونبذة مجملة عن حياة ذى القرنين!. وبعد كل قصة تعليق شاف رائع يهدى إلى الله ويعد للقائه. وقبل الإفاضة في شرح هذه الأحداث قيل لمحمد: بلغ ولا تحزن لتكذيب مكذب، قد كان فؤاده يطفح بالكآبة وهو يدعو إلى الله بإخلاص فيفجؤه انصراف الناس، وتهجم المكذبين. إنه صاحب حق ضلوا عنه، وتبعوا أوهاما لن تقودهم إلا إلى الردى. وما أكثر الحيارى التائهين في هذه الدنيا، وما أشد صدودهم عن الهدى!. لكن الله يقول له: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} لا يقتلنك الحزن على حالهم، {إن عليك إلا البلاغ} إن كل إنسان أوتى عقلا يحاسب به، ويساءل عن الفترة التي يقضيها على ظهر الأرض. فمن أحسن العمل نجا، ومن أساء هوى، {ولا يظلم ربك أحدا} ثم بدأ سرد قصة أهل الكهف... وأهل الكهف شباب آمنوا بالله الواحد، وعلموا أن ما دونه أصفار لا تضر ولا تنفع، لكن قومهم كانوا يؤمنون بآلهة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فوقعت النفرة واشتدت الخصومة {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا}. وفى مراحل الفتنة التي مرت بهم فروا إلى كهف يؤويهم من الظلمة، ويحميهم من بطشهم، فشاء الله أن يجعل من سيرتهم وحيا يتلى إلى آخر الدهر!. ومأساة الاستبداد السياسى والمقاومة المؤمنة تتكرر على اختلاف الليل والنهار، وكذلك نصر الله للمؤمنين وخذلانه للكافرين {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا}؟ إن تاريخهم ليس بدعا في التاريخ!. على أنى أنظر إلى مقامهم في الكهف- كما أراد الله لهم- فأشعر بالدهشة. يقول العلم: إن الشمس على بعد مائة وخمسين مليون كيلو، وإن شعاعها ينطلق منها ليصل إلينا في ثمانى دقائق.
|